جديد التدوينات

يتم التشغيل بواسطة Blogger.

مقالات حصرية

الفقيه

پول باولز

الفقيه
ترجمة: علي المجنوني


تصدير إلى PDF طباعة أرسل لصديق
عشية يوم من أيام منتصف الصيف دخل كلب قرية راكضا، فتوقف بما يكفي ليعض رجلا شابا كان واقفا على الشارع الرئيسي. لم يكن جرحا عميقا، إذ غسله الرجل الشاب من ماء نافورة قريبة ولم يعره بعد ذلك أدنى اهتمام، إلا أن رجالا عدة رأوا الكلب وهو يعضه رووا ذلك لأخيه الأصغر. عليك أن تأخذ أخاك إلى طبيب في المدينة، قالوا له.

عندما عاد الغلام إلى البيت وعرض هذا الاقتراح ضحك أخوه بكل بساطة. في اليوم التالي قرر الغلام أن يستشير الفقيه. ألفى الرجل العجوز جالسا في الفيء تحت شجرة التين في باحة المسجد. قبّل يده ثم أبلغه أن كلبا لم يره أحد من قبل قد عض أخاه ثم ولى هاربا.
يا للسوء، قال الفقيه. هل عندك إسطبل يمكنك أن تحبسه فيه؟ ضعه هناك، ولكن قيّد يديه خلف ظهره. يجب ألا يقترب منه أحد، هل فهمت؟
شكر الغلام الفقيه وانطلق قاصدا البيت. في الطريق عقد العزم على أن يلف مطرقة في غزْل وأن يضرب أخاه في قفا رأسه. ولعلمه أن أمه لن تقبل أبدا برؤية ابنها يُعامل على هذا النحو قرر أن يقوم بذلك أثناء غيابها عن المنزل.
ذلك المساء بينما كانت المرأة تقف خارجا إلى جانب البئر، تربص بأخيه ثم ضربه بالمطرقة حتى سقط على الأرض. أوثق بعد ذلك يديه خلفا وسحبه إلى زريبة مجاورة للمنزل. تركه ملقى على الأرض داخلها، وخرج مقفلا وراءه الباب.
عندما عاد إلى الأخ وعيُه أطلق صرخة قوية. نادت الأم الغلام: عجّل! اعدُ وانظر ما هو أمر محمد. غير أن الغلام اكتفى بالقول: أعلم أمره. عضه كلب، فقال الفقيه إنه يجب أن يمكث في الزريبة.
أخذت المرأة تشد شعرها وتلطم خدها وتخبط صدرها. حاول الغلام أن يهدئ من روعها لكنها دفعته بعيدا وراغت إلى الزريبة. ضغطت بأذنها على الباب. كل ما استطاعت سماعه كان صوت لهاث ابنها المرتفع وهو يحاول أن يحرر يديه من الحبال التي تقيدها. ضربت بقوة على الخشب وصاحت منادية باسمه، لكنه كان يصارع، ممرغا وجهه في القذراة، ولم يجب. أخيرا قادها الغلام إلى المنزل. إنه أمر مكتوب، قال لها.
في الصباح التالي امتطت المرأة أتانها واتجهت إلى القرية من أجل أن تقابل الفقيه. إلا أنه كان قد غادر ذلك الصباح لزيارة أخته في غفساي(1)، ولم يكن أحد يعلم متى سيعود. وهكذا ابتاعت بعض الخبز وسلكت طريق غفساي، يرافقها زمرة من أهل القرى الذين كانوا في طريقهم إلى سوق في المنطقة. نامت تلك الليلة في السوق، وعند الفجر من صباح الغد استأنفت طريقها مع زمرة أخرى مختلفة.
كان الغلام كل يوم يلقي الطعام إلى أخيه عبر نافذة صغيرة مسيجة أعلى إحدى الحجرات في الزريبة. في اليوم الثالث ألقى سكينا أيضا، كيما يكون بوسعه قطع الحبال والأكل بيديه. وبعد حين فطن إلى أنه قام بفعلة حمقاء في إعطائه السكين، لأنه لو اشتغل بها طويلا بما يكفي فسينجح في شق طريق له من خلال الباب. وبالتالي هدد أخاه بأنه لن يحضر مزيدا من الطعام إن لم يرمِ السكين من النافذة.
لم تبلغ الأم غفساي قبل أن تمرض بالحمى. أخذتها العائلة التي كانت مسافرة معهم إلى بيتها واعتنوا بها، لكنها لم تستطع أن تنهض من الفراش الأرضي الذي كانت مطروحة عليه قبل أن يوشك شهر على الانقضاء. أثناء ذك الوقت كان الفقيه قد عاد إلى قريته.
أخيرا كانت بصحة كافية لأن تعود من جديد. وبعد يومين من الركوب على ظهر الأتان بلغت بيتها منهكة القوى، حيث اسقبلها الغلام.
وأخوك؟ سألته، وهي على يقين بأنه الآن قد فارق الحياة.
أشار الغلام إلى الزريبة، فسارعت إلى الباب وأخذت تناديه بصوت عال.
اعثري على المفتاح وأخرجيني. قال صائحا.
يجب أن أقابل الفقيه أولا، يا ولدي. في الغد.
في الصباح التالي ذهبت هي والغلام إلى القرية. ولمّا رأى الفقيه المرأة وابنها يدخلان الباحة رفع عينيه إلى السماء. إنها مشيئة الله بأن يموت ابنك بالكيفية التي مات بها، أخبرها.
لكنه لم يمت! قالت باكية. ولا ينبغي أن يمكث هناك وقتا أطول.
ذُهل الفقيه، ثم قال: لكن أخرجيه. أخرجيه. لقد كان الله رحيما.
إلا أن الغلام توسل إلى الفقيه أن يأتي ويفتح الباب بنفسه. وهكذا انطلقوا، الفقيه راكبا على الأتان، والمرأة والغلام يتبعانه ماشيَيْن. ببلوغهم الزريبة ناول الغلام المفتاح إلى الرجل العجوز، ففتح الباب. اندفع الرجل الشاب خارجا، تتبعه رائحة نتنة قوية لدرجة أن الفقيه أغلق الباب من جديد.
مضوا إلى المنزل، وأعدّت لهم المرأة شايا. وبينما كانوا يشربون جالسين خاطب الفقيه الرجل الشاب قائلا: لقد استبقاك الله. يجب عليك ألا تسيء إلى أخيك بسبب حبسه لك، فقد فعل ذلك بناءا على طلبي.
أقسم الرجل الشاب ألا يرفع يده على الغلام. بيد أن الغلام لم يزل خائفا، ولم يقو على النظر إلى أخيه.
عندما نهض الفقيه للعودة إلى القرية ذهب الغلام معه لكي يعيد الأتان. وبينما كانا في الطريق قال للرجل العجوز: أنا خائف من محمد.
استاء الفقيه. أخوك أكبر منك، قال. إنك سمعته وهو يقسم ألا يلمسك.
تلك الليلة بينما كانوا يأكلون ذهبت المرأة إلى المجمرة لكي تعدّ الشاي. لأول مرة اختلس الغلام نظرة إلى أخيه فتجمد خوفا. كشف محمد عن أسنانه بخفّة وأطلق من حلقه صوتا غريبا. فعل ذلك على سبيل الدعابة، لكنها بالنسبة للغلام عَنَت شيئا مختلفا تماما.
لم يكن يجدر بالفقيه أن يخرجه أبدا، قال لنفسه. سيعضني الآن، وسأمرض كما مرض. وسيأمره الفقيه بأن يرمي بي في الزريبة.
لم يقو على النظر مرة ثانية إلى محمد. في الليل استلقى في الظلام يفكر في أمره، ولم يستطع النوم. باكرا في الصباح انطلق إلى القرية حتى يدرك الفقيه قبل أن يبدأ تدريس تلامذته في المسجد.
ما الأمر هذه المرة؟ سأل الفقيه.
عندما أخبره الغلام عما يخاف منه ضحك الرجل العجوز. لكنه ليس مصابا بمرض! لم يمرض أبدا، الحمد لله.
لكنك بنفسك أمرتني أن أحبسه، يا سيدي.
أجل، أجل. لكن الله كان رحيما. اذهب الآن إلى المنزل وانس الأمر. لن يعضك أخوك.
شكر الغلام الفقيه ثم غادر. مشى في القرية ثم على امتداد الطريق الذي قاده أخيرا إلى الطريق السريع. في الصباح التالي استقل شاحنة أخذته إلى الدار البيضاء. ولم يسمع أحد في القرية عنه مرة أخرى.

(1) قرية جبلية صغيرة في إقليم تاونات، شمال المغرب.

پول باولز (1910م-1999م) روائي وقاص أمريكي. انتقل إلى طنجة عام 1947م واستقر فيها باقي حياته، أي ما ينيف على خمسين سنة. كتب عددا من الروايات والمجموعات القصصية التي حظيت باستحسان كبير، كما ترجم إلى الإنجليزية مجموعة من الروايات المغربية. پول باولز أيضا مؤلف موسيقي معروف، وهو المسؤول عن جمع موسيقى شمال أفريقيا لمكتبة الكونجرس.


ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق

نرحب بمشاركاتكم وملاحظاتكم على غفساي الغد

Ads 468x60px

مشاركة مميزة

غفساي والحراك الشبابي

  تعيش مدينة غفساي في الأسابع الأخيرة على وقع  احتجاجات متتالية ينظمها شباب المدينة ويؤطرها مجموعة من المعطلين ومناضلي  المدينة ...

المشاركات الشائعة